الاثنين، 9 يناير 2012

أثر الجغرافيين المسلمين في الحضارة الغربية


بقلم الدكتور: عبد العظيم أحمد عبد العظيم
أستاذ الجغرافيا البشرية المساعد، كلية الآداب قسم الجغرافيا، جامعة دمنهور، مصر

كان من مظاهر تأثير الجغرافيين المسلمين في الغرب ما كان من تخاطفهم (الغرب) لمؤلَّف الإدريسي (نزهة المشتاق..) وطباعتهم له طبعات كثيرة ومختلفة، حتى ظل هذا الكتاب مصدرا لأوربا أكثر من أربعة قرون. وقد استخرج ميلر خريطة الإدريسي وطبعها ونشرها كما سيأتي ذكره، وكذلك اهتمَّ المجمع العراقي بهذا الكتاب، فعمل باحثوه على مراجعة وتدقيق كل النسخ الموجودة في العالم، وأخرجوا خريطة الإدريسي وطبعوها سنة 1951 وهي بطول مترين وعرض متر.
ومن أهم ما يُرى من آثار المسلمين في الحضارة الغربية في مجال الخرائط ما تجلى في الخريطة التي زود بها (مارينو سانتور 1321م) كتابه (الأرض المقدسة)، حين وضع المؤلف خارطة لتوضيح فكرته التي ترمي إلى محاصرة العالم الإسلامي حصارا اقتصاديا بقصد استثارة حرب صليبية جديدة؛ إذ يقول (كراتشكوفيسكي): "إن الخريطة ليست سوى تكرار لجميع الخطوط العريضة المميزة لخارطة العالم في أطلس الإسلام مع اختلاف بسيط، هو أن الأخيرة مركزها مكة أما خريطة (مارينو) فكان مركزها القدس بطبيعة الحال". ومن التأثير في هذا المجال أيضا ما كان من أحد الدارسين الأجانب وهو (كونراد ميللر) من العناية بجمع الدراسات الإسلامية التي اهتمت بعمل الخرائط، وأطلق عليها اسم (الخرائط العربية)؛ لأنه أدرك أن المسلمين قد اهتدوا بذكائهم الفطري إلى أهمية الخرائط لتوضيح المعلومات الجغرافية.
هذا وما زالت بعض المؤلفات العربية المصدر الرئيسي للمعلومات الجغرافية عن كثير من جهات العالم، ومن هذه المراجع: وصف الهند للبيروني، ورحلة ابن بطوطة، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، ومروج الذهب للمسعودي...
ومما أثر عن ذلك في رحلات ابن بطوطة أن الأوربيين والمستشرقون اهتموا بهذه الرحلة كثيرا وبحثوا عن مخطوطها الأصلي، فلم يجدوا سوى مختصر اكتشفه السائح الإنجليزي (بوركارت)، ثم اكتشف المستشرق الألماني (كيسجارتن) نسخة خطية ثانية فدرسها دراسة تحليلية, وترجم عنها إلى اللغة اللاتينية، وأخيرا طُبِعت الرحلة في باريس كاملة مع ترجمة فرنسية بإشراف عالمين مستشرقين - هما سنكونيتي، وديفريمري - كما نقلها إلى الإنجليزية أحد القساوسة - هو صمويل لي، وكان ذلك سنة 1829م - ونشر تلخيصا عنها المستشرق (جب). وهي أيضا مترجمة إلى اللغات الألمانية - قام بترجمتها المستشرق: مزيك عام 1912م - والتركية - واسمها: تقديم وقائع - والبرتغالية - كتبها: الفرنسيكاني مورا - والإيطالية والإسبانية، وقد طبعت في مصر مرتين عن الطبعة الفرنسية، وطبعة ثالثة منقحة سنة 1934 تحت عنوان: (مهذب رحلة ابن بطوطة)، أخرجها الأستاذان: أحمد العوامري وأحمد جاد المولى.
كذلك قام أستاذ العربية في جامعة باريس في القرن السابع عشر "بيير فاتييه" بترجمة مخطوطة في وصف مصر وُجِدت في مكتبة الكردينال مازاران، ويتضمن المخطوط إلى جانب ذلك كلاما كثيرا في الجغرافيا, ونصا شائعا عن التاريخ الأسطوري لمصر القديمة مع اهتمام خاص بمراكز السحر فيها، وأمثال هذه الكتب أعانت كثيرا على تكوين صورة الشرق لدى الغربيين خلال عصر التنوير، وقد وجدت هذه الصور صدى في الأعمال الفنية والأدبية عند الغرب.
يقول جوستاف لوبون: "ويكفي أن نشير مع ذلك إلى ما حققه العرب في الجغرافيا لإثبات قيمتهم العالية، فالعرب هم الذين عينوا بمعارفهم الفلكية مواقع الأماكن تعيينا مضبوطا في الخرائط، فصححوا بذلك أغاليط علماء اليونان، والعرب هم الذين نشروا رحلاتهم الممتعة عن بقاع العالم التي كان يشك الأوربيون في وجودها، والعرب هم الذين وضعوا الكتب الجغرافية التي جاءت ناسخة لما تقدمها، فاقتصرت أمم الغرب عليها وحدها قرونا كثيرة. وكتب أيضا: "إن المسلمين كانوا شجعانا في ركوب السفن في البحار دائما، ولم يكونوا يترددون في السفر إلى النقاط، إنهم في أوائل استقرار حكومة الإسلام أقاموا علاقات تجارية مع الدول البعيدة عنهم كالصين ونواحي روسيا ومناطق من أفريقيا، ولم يكن الأوروبيون يومئذ يدركون ذلك، ونشر"سليمان الرحالة" مذكراته من رحلته الى الصين فكان أول كتاب انتشر في أوروبا عن الصين، وفي أوائل هذا القرن ترجمت هذه الرحلة إلى اللغة الفرنسية.
ولقد كان من أهم آثار الجغرافيين المسلمين في الحضارة الغربية ما كان منهم عندما أخطأ بطليموس أخطاءً شنيعة؛ فجاء المسلمون وصححوها من ورائه، واستفاد منها الغرب، منها إخفاقه في تحديد موقع بحر قزوين والخليج العربي، وخطأه عندما بالغ في حجم جزيرة يلان، وبالغ في تحديد امتداد الجزء المعمور من الأرض المعروفة له, وجعل المحيط الهندي جزيرة وذلك بوصله المناطق الآسيوية الجنوبية بجنوبي إفريقية.. وصحح المسلمون كل الأخطاء، ولم يأخذ الغرب هذه التعديلات إلا عنهم؛ فكان هدية للبشرية لولاها لكان مصير هذه المسائل في علم الغيب..
أما خريطة المأمون فقد أسدت إلى الحضارة الغربية فضلاً عظيماً رغم ضعف إمكانات العرب من حيث الأجهزة الجغرافية في عصره، فقد عدَّل المسلمون في خريطة بطليموس, وحسنوها وأضافوا إليها الكثير من التصحيحات الجوهرية، إضافة إلى التحسينات التي أدخلوها على المناطق الممتدة من قادس في أسبانيا إلى السند في الهند فقد اتخذوا وضعاً أكثر تناسباً، ولم يعد الخليج العربي بهذه الصورة المستديرة كما في خريطة بطلميوس وإنما اتخذ وضعاً أكثر ملائمة مع وضعه الصحيح..
كل هذه الإضافات والتعديلات تابعها الغرب بقوة، قد يكون حاول تشويهها إلا أن الواقع كان ينطق بإنجازات المسلمين الجغرافية، حيث يقر الاستاذ كراتشكوفسكي أن الأوروبيين كانوا حتى بداية القرن الخامس عشر لا يرجعون لغير الجغرافيا العربية, وكانت خريطة الإدريسي ـ كما يقول هو نفسه ـ الأثر الوحيد المهم في الكارتوغرافيا الأوروبية قبل القرن الرابع عشر..
والواقع أن الجغرافيين المسلمين: الإدريسي وأبا الفدا، هما اللذان أثرا في أوروبا أكثر من غيرهما من علماء المسلمين الجغرافيين، غير أن معظم الذين كتبوا في هذا الموضوع لا يريدون الإقرار بحقيقة أثر الجغرافيين المسلمين في النهوض بالجغرافيا في أوروبا.
وقد ظلت الكارتوغرافيا الأوروبية تعتمد على خارطة الإدريسي حتى قبيل القرن الخامس عشر الميلادي.. ومن خلال هذه المقدمات حيث لم يكن الغرب يعرف جغرافيا بطليموس حتى هذا التاريخ، ويعتمد كلياً على خارطة الإدريسي فمن الطبيعي أن يكون سانوتو قد رسم خريطة معتمداً على الإدريسي أيضاً مع بعض التغييرات الطفيفة، ثم أن سانوتو أخذ في الحقيقة كثيراً من الأوصاف وأسماء الأماكن وخاصة أسماء جزر المحيط الأطلسي من جغرافية الإدريسي
وعلى الرغم من تفوق الغرب في توظيف المحن التي تعرض لها المسلمون ولا زالوا يتعرضون لها، في محاولة طمس الحقائق التي تثبت تفوقهم ونبوغهم في مجالات شتى، إلا أن الله قد قيض لهذه المسألة أناساً من الغربيين لا يعرفون في أبحاثهم سوى المصداقية والموضوعية وإيثار الحق ونسبة الفضل إلى أهله، ويعترفون بفضل المسلمين وسبقهم في علم الجغرافيا، والأمثلة على ذلك ما يلي:
- يصف المستشرق الإيطالي (نللينو) كتاب الخوارزمي (صورة الأرض) بقوله: "إنه لا يوجد شعب أوربي واحد يستطيع أن يفخر بمصنف يمكن مقارنته بهذا الكتاب".
- يقول المستشرق الفرنسي (جاك ريسلر): "لم يكن بطليموس الأستاذ الحقيقي في جغرافية أوربا، لكنه الإدريسي.. ومصورات الإدريسي التي تعترف بكروية الأرض كانت تتويجا لعلم المصورات الجغرافية في العصر الوسيط بوفرتها وصحتها واتساعها..".
- ويقول (ألدو مييلي): "لقد عرف العرب (المسلمون) وضع الخرائط وضعا علميا مبنيا على تعيين الطول والعرض في العناصر الجغرافية المختلفة، حيث وصلوا بذلك - على يد الإدريسي - إلى تحقيق خطوة جديرة بالإعجاب حقا في هذا الفن الذي هو فرع عظيم الأهمية من الجغرافية العلمية".
ـ وها هي زيجفريد هونكه في كتابها "شمس العرب تشرق على الغرب" تقول عن كتاب الإدريسي: "يحوي كتاب الإدريسي وصفاً كاملاً للمدن والبلاد موضحاً طبيعتها وثقافتها والنشاط البشري فيها، ذاكراً بحارها وجبالها وأنهارها وسهولها وأوديتها، كما يتحدث عن الفواكه والحبوب والنباتات التي تنمو في تلك البلدان، وكذلك الفنون والصناعات التي يتقنها أبناء كل إقليم، ويتكلم عن الصادرات والواردات والحالة المعيشية للشعوب والعادات والتقاليد والملابس واللغات المنتشرة بينهم". وتتابع العالمة الألمانية وصفها لأعمال الإدريسي فتقول: "إذا كان بطليموس قد أخطأ في رسوماته ببضع درجات، فإن العرب لم يتجاوزوا الواقع الصحيح بدقيقة أو دقيقتين، ونجد أن الإدريسي قد وحّد الاتجاهين, وربط بين الجغرافيا الوصفية والجغرافيا الرياضية الفلكية".
- ومما جاء في كتاب تراث الإسلام وفي دائرة المعارف الإسلامية عن الشريف الإدريسي نجد أن الخريطة الإدريسية تمثل القسم العامر من الكرة الأرضية، تشمل القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وإفريقية، وكان تقسيم العالم آنذاك يعتمد على نظرية الأقاليم وهي سبعة أوردها الإدريسي بهذا العدد لكنه حدَّدها وقسَّمها بحسب درجات العرض، فجعل الإقليم الأول بين الدرجة (.) والدرجة (23) شمال خط الاستواء، والأقاليم الخمسة بعده كل واحد منها ست درجات، والإقليم السابع من الدرجة 54 إلى الدرجة 63 وما بعدها، والدرجة الأخيرة غير مسكونة كونها مغمورة بالثلوج.
قدَّر الباحثون وعلماء الجغرافيا عبقرية الإدريسي التي تتجلَّى في خريطته للعالم, وفي محاولته إثبات درجات العرض وتحديدها، وقد أفلح في هذا المجال إلى حد بعيد، وبتقسيمه الأقاليم السبعة إلى عشرة أجزاء متساوية من جهة الغرب إلى الشرق، هذا التقسيم وإن لم يدل على درجات الطول فإنه يسهِّل القيام بهذه المهمة ويساعد على رسم الخريطة، علماً أن كتابه يتضمَّن خريطة خاصة لكل قسم من الأقسام السبعين إضافة إلى الخريطة الجامعة، وكل هذه الخرائط (71 خريطة) محفوظة في مختلف النسخ الموجودة من كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". وحَظِيَ كتابه وخريطته بإعجاب المستشرقين والباحثين، قال البارون دي سلان: "إنَّ كتاب الإدريسي لا يمكن أن يوازيه أيّ كتاب جغرافي سابق له، وهناك بعض الأجزاء من المعمورة لا يزال هذا الكتاب دليل المؤرخ الجغرافي في الأمور المتعلقة بها..". وجاء في دائرة المعارف الفرنسية ".. إنَّ كتاب الإدريسي أوفى كتاب جغرافي تركه لنا العرب، وإنَّ ما يحتويه من تحديد للمسافات, ومن وصف دقيق يجعله أعظم وثيقة جغرافية في القرون الوسطى..".
ـ صرح الأستاذ كرامرز أن الحضارة الأوروبية في مجال الجغرافيا قامت على أكتاف العرب، حيث يقول: لم يكن غريباً أن يفكر العلماء عندما نشر جوبير كتاب "نزهة المشتاق" للإدريسي بالفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر أن هذا العمل من شأنه أن يزيد من معرفة الأوروبيين الجغرافية للعالم وخاصة فيما يتعلق بشمالي إفريقية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق